الحرف مدني بالطبع ( أسرار الكتابة )

إن الحرف عريق عراقة الإنسان، في حده الحد بين الجد واللعب، يمشي في هدوء و صمت ليصنع الحدث، ليصنع التاريخ، ليصنع الحاضر والمستقبل، إنه.. كائن عجيب.

حينما تحكي الحروف أسرارها:

رفعت جميع الحروف بأشكالها رسالة تظلم إلى قانون الكفاية الحياتية{1} بهكذا أسلوب، وبالمختصر المفيد. إسمي حرف. مهمتي الكتابة و الخط. أسكن الأرض، وأرفع إليكم تظلمي من فعل الإنسان الخليفة.

حينما تحكي الحروف أسرارها. حينما تسافر عبر خيال الإنسان و هو في إقامته، و تقيم فيهرغم كثرة حراكه. حينما تعلن الحروف تظلمها. حينما نقرأ في الذكرى البعيدة مماحكاة الحروف و الخط و الكتابة. تستوقفنا دهشة كبيرة، ندرك من خلالها أن الحرف كائن حي يمشي بلا قدم{2}.

اللغة كائن حي يمشي في صمت:

إن الحرف عريق عراقة الإنسان، في حده الحد بين الجد واللعب، يمشي في هدوء و صمت ليصنع الحدث، ليصنع التاريخ، ليصنع الحاضر والمستقبل، إنه.. كائن عجيب. بالحرف ألفت كلمات, و بالكلمات ألفت جمل، و بالجمل ألفت مقالات، و بالمقالات ألفت كتب. فهلا عانقت أيها (الخليفة) شوق الكتابة و الخط، و ساهمت في ضخ دماء جديدة في كائن الحروف. فلولا الحرف ما تلجلجت حقيقة، لولاه ما نزل الزاد من السماء، لولاه لسادنا الكساد و البوار.

أسهم في مظاهرة تأييد الحروف عبر الخط والكتابة، عبر الزمان والمكان. فلو كان الحرف سهلا ما بدأت به سور من الكتاب العزيز، لو كان الحرف سهلا ما تعلق به أجر و ثواب. لا تبدد الوقت أيها الخليفة ناضل من أجل الحرف، ففي سبر مقابساته “انتماء”. في سبر مقابساته حضور و غياب. في بعثه و إحيائه انبلاج حضارة ووفاة أخرى.

قانون الكفاية الحياتية:

إن قانون الكفاية الحياتية أنصف حرف السماء، إنه أشرف الحروف على الإطلاق. و من جمال أخلاقه أنه تعايش مع باقي الحروف منذ الأزل و سيظل. ومن فضله على الإنسان أنه رزق وزاد للإنسان الخليفة.

قال سبحانه: ﴿ وفي السماء رزقكم وما توعدون ﴾{3} الذاريات22. إنها حروف أوسع من مجرد حصرها في معنى بعينه. الحرف زاد من السماء، إنه غذاء للروح والعقل في آن معا. فاحذر أن تختزل الحرف في مجرد الخط وفنونه، أو في مجرد الكتابة بأجناسها. إن الحرف كائن حي، يحمل للإنسان رزقا قيميا، ورزقا معرفيا، ورزقا أخلاقيا{*}. إن الحرف خادم جيد، لكنه قد يتحول إلى سيد فاسد، إنه عبد مخلص، لكنه قد ينقلب إلى مائق، إنه صديق حميم لكنه قد يتحول إلى كاشف فاضح.

كثيرا ما سمعنا “الإنسان مدني بالطبع”، في سياق إثبات ضرورة التواصل بينه، والآخر المختلف، أو في سياق إثبات ضرورة التعايش وتحقيق وعد استخلاف الله للإنسان، فهلا التفتنا يوما إلى إنصاف الحرف على غرار ما سبق، بالقول: “الحرف مدني بالطبع” إنه معنى وأي معنى، أي معنى للحرف إذا كان وحيدا، إي معنى للحرف إدا كان خارج السياق، خارج اللغة، إذا كان خارج الكلام. ألم تقل العرب في تعريف الحرف”ما دل على معنى في غيره” تأمل، تجد الحرف كائنا لا معنى له، إلا وهو متعايش في جملة أو مقال، أو كتاب، أو ليس الحرف مدنيا بطبعه، أو ليس يحتاج إلى أسرة يتعايش من خلالها ليؤدي وظيفة رسالية في عالم الحروف{عالم اللغات} ؟

وظيفة الحروف المقدسة:

إن الحرف جاء ـ في إطار وظائفه الرسالية ـ لينقل الإنسان من” النباتي ـ الإستهلاكي”، إلى كائن مفكر عاقل متعقل حليم، إلى كائن “منتج” بأداة هي الكلام، بأداة هي اللفظ المفيد كاستقم، فاستقم على هذا المعنى كما نريد لك، واحرص أيها الإنسان أن تكون صاحب حرف، فقد أخلص الحرف لأناس كثيرين ولم يكونوا من أهل الجامعات، فبرزت أسماؤهم شامخة، يذكرون رغم غيابهم بل أصبحوا من الكبراء في عالم الفكر والمعرفة بجرأة العصامية، أو عصامية الجرأة حتى.

أليس الحرف جميلا، بل أليس لذيذا لذة لا تضاهى. إن الحرف يحتفظ بذلك السر العجيب، إنه يخلص لصاحبه أكثر من اسمه الذي يختاره علما. غير أنني لست أعني هنا رسم الحروف الجوفاء، أو الاعتزاز بالحرف لأنه حرف، أو لأنه على هكذا وزان في شكله وصورته وهندسته. أو التشبت به، فقط لأنه يحقق الانتماء. إن الحرف الذي أقصده، ذلك الذي يحمل زخما من الأفكار و الرؤى و التصورات، الحرف الذي يدخر لإنسان كل عصر ما يناسب فهمه وحاجته، الحرف الذي يحمل رسالة إلى عالم الإنسان، الحرف الذي له لذة العسل وقدرته على الشفاء من أغلب الداء، الحرف الذي يستوعب الزمن ويخدم صالح الإنسان، الحرف الذي يستوعب الجميع ويمتد عبر المكان في “سمفونية” رائعة تستهوي القلوب، الحرف الذي يوظف لعمارة الأرض بعيدا عن أيديولوجيات العصر و نرجسية الولاء للطائفة أو الحزب أو العرق أو جماهير الغوغاء.  

       عزيز هادي، بقلمي.

============================

{1} قانون يحكم اللغات، ويقضي أن اللغة التي تسود وتدوم، تلك التي تحقق مصالح الإنسان الحياتية.

أورده الدكتور أحمد عبد الرحمن في كتيب صغير له بعنوان “العلمانية والخداع الثقافي”

من باب الأمانة العلمية، ونأسف لضياع الكتاب بين أيدينا لأن إطلاعنا عليه كان منذ زمن بعيد، وحسبنا نسبة العلم إلى أهله.

{2} كلمة مستعارة من الشاعر الكبير أحمد مطر، في حين وصفه للقلم فقال: إنه تهمة سافرة تمشي بلا قدم.{أنظر قصيدة “القلم”}

{3} سورة الذاريات، الآية22

{*}ذهب الأستاذ والفيلسوف المسلم ـ من المعاصرين ـ العربي الكشاط، إلى أن الرزق في الآية القرآنية، قد يحمل على معان أخرى كالرزق القيمي، الرزق المعرفي، الرزق الأخلاقي في إطار ندوة عن منظومة القيم، من إعداد وتقديم الدكتور عمر عبد الكافي، على قناة الشارقة. منتقدا بذلك التوجه العام للناس إزاء النص القرآني، الذي يختزل دلالة الرزق في ما يتعلق بالمعدة. ولأننا نستحسن كلامه، أحببنا أن نقول عن الحرف عامة، ما قاله عن الرزق خاصة على سبيل القياس على الأصل.



تحتوي هذه المشاركة على 10 من التعليقات

  1. zoritoler imol

    I simply could not depart your website prior to suggesting that I really enjoyed the usual information an individual provide for your visitors? Is gonna be back continuously in order to inspect new posts

  2. israelxclub.co.il

    Itís hard to come by well-informed people in this particular subject, however, you seem like you know what youíre talking about! Thanks

  3. Mark

    Thanks for your blog, nice to read. Do not stop.

  4. We’re a gaggle of volunteers and opening a brand new scheme
    in our community. Your site offered us with valuable info to work on. You’ve performed a formidable activity and our entire group can be grateful
    to you.

  5. Actually no matter if someone doesn’t know after that its
    up to other people that they will assist, so here it occurs.

  6. I don’t even know how I ended up here, but I thought this post
    was good. I don’t know who you are but certainly you are going
    to a famous blogger if you are not already 😉 Cheers!

  7. Hello! I simply wish to give you a big thumbs up for your great information you
    have got here on this post. I’ll be returning to your web site for more soon.

  8. I think this is among the most vital information for
    me. And i am glad reading your article. But wanna remark on few general things, The web site style is great,
    the articles is really nice : D. Good job,
    cheers

  9. twicsy review

    I have read so many articles or reviews on the topic of the blogger lovers however this post is
    actually a good post, keep it up.

  10. With havin so much content and articles do you ever run into any problems of plagorism or
    copyright infringement? My website has a lot of unique content I’ve
    either authored myself or outsourced but it seems a lot of it is popping it up all over the web without my authorization. Do
    you know any ways to help prevent content from being stolen? I’d genuinely appreciate it.

اترك تعليقاً