الدين بين الضرورة والترف الفكري: فرش نظري.

   هل التدين ترف، أم ضرورة عبر تاريخ البشرية الطويل ؟ وعلى فرض اعتباره ضرورة، كيف قاربت الفلسفة هذا الموضوع، تفضلوا بقراءة هذه الكلمة، التي تروم فتح آفاق البحث في الموضوع من خلال فرصة أكاديمية.

على سبيل الابتداء:

الحمد لله الذي قرن الأعمال بالإخلاص والتوفيق، قيوم السماوات والأرض،  نحمده حمدا يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، حمدا سمته التواتر. والصلاة والسلام، الأتمان الأكملان على البشير النذير، الرحمة المهداة، المبعوث (وكل الرسل) لإخراج البشرية من عالم الأوهام والأباطيل، إلى عبادة الله الواحد الصمد {قل هو الله أحد، الله الصمد}1؛ إنه الله الذي طالما بحث عنه الإنسان منذ خطواته الأولى، وهو يبحث عن سر الكون والوجود، الله الذي  بلغ مفهومه عند الإنسان ذروة  التعقيد، فراح يبحث عنه بنهم، فأيقن بعد ذلك أن البحث في الدين، في الميتافيزيقا Metaphysics، لا سبيل إلى إدراكه، وأن تجاوز المحسوس إلى المجرد، أمر صعب، مستعص على الأفهام والعقول.

التدين ضرورة عبر تاريخ البشرية:

ولما كان التدين ضرورة فرضت نفسها على الإنسان، فقد عمد هذا الأخير منذ فجر التاريخ  Dawn of history إلى عبادة الأرواح spirts والأسلاف  The dead ومظاهر الطبيعة والطواطم Totems، وغير ذلك مما يخاف الانسان، ويرجو رحمته ويخشى عقابه، ظنا منه أنه الإله الذي خلق الكون والإنسان، والذي يتحكم في مصائر البشرية على مر العصور، وتعاقب الأجيال. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على فطرية التدين في الإنسان.

غير أن النفس الإنسانية التي تنزع إلى شيء تعبده، وتبحث في الوجود عن قوة عظيمة تحميها، لم تلزم قوة واحدة، أو إلها واحدا، بل تعددت آلهتها، وتعددت أربابها بتعدد حاجات الإنسان وميوله، ورغباته ومخاوفه.

      ولما كان  التدين لازما للنفس  الإنسانية كما  يلزم  الإنسان ظله،  فإنه  يبقى معه  ببقائه، فيرتحل معه أنى ارتحل، اقتضت حكمة الله سبحانه، أن يرشد العقل الإنساني الحائر المنهمك في غيبة الحياة ومجهولها، فأرسل إليه رسلا تترى مبشرين ومنذرين، باعتبارهم المكلفين بتبليغ  الرسالة، وتصويب الفطرة الإنسانية لإعطائها الوجهة الصحيحة التي يرضاها رب العزة؛ وهي تحويل الوجهة من عبادة العباد للعباد، أو مظاهر الطبيعة، إلى عبادة الله الواحد، الذي خلق كل شيء.

ومن هنا يتبين أن البحث في الدين بحث عن الحقيقة، لأن قضية الدين، ليست أمرا طارئا يمكن أن نستخف به، أو نرمي به في غياهب النسيان ؛ نتحدث عنه متى رغبنا، وندع الغبار يطاله في أحايين أخرى. والحق أن “الدين religion ”  فطري في الإنسان كالأكل والنوم والشرب، تدور معه وجودا وعدما، فحيثما توفر الأكل والشرب ضمن الإنسان عيشه ما لم يقدر له الموت، وحيثما انعدم كانت حياته مهددة بالدمار. وشأن الطعام والشراب شأن سائر النوازع الإنسانية مع النفس وحاجتها.

أصالة فكرة التدين:

      انطلاقا من هذه المعطيات، يحسن بنا أن ننوه بأهمية هذا الموضوع : “نشأة الدين بين الفلسفة والقرآن”. فقد كان نشر هذا الموضوع مقترحا فلقي قبولا واستحسانا منا، لرغبتنا الأكيدة في تعريف القاريء بحال النفس الإنسانية في علاقتها بالتدين. أهو حال لزوم، أم حال انفصال، حال  ضرورة أم حال حاجة، سيما وأن من المجتمعات المعاصرة من ينبذ الدين ويدعو إلى إقامة الحياة البشرية، على أسس ومباديء ومرتكزات مادية صرفة.

      وباعتبار الظاهرة الدينية  ملازمة للمجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ، كان ضروريا أن نقدمها لكم في نظم متنوع  كما سيتبين لكم في الحلقات القادمة وذلكم أحد أسباب صعوبة بحث الموضوع والإحاطة به.

ثم إن الفلسفة – انطلاقا من  عنوان الموضوع – مصطلح واسع يحمل في جعبته كل نتاج العقل. ومن ثم فالفكر الإسلامي والفلسفة الغربية، بل وعقل الإنسان البدائي كل ذلك يعتبر فلسفة، طبعا إذا سلمنا بأن الفلسفة في مفهومها العام هي كل نتاج العقل الإنساني عامة. هذا على مستوى الموضوع ذاته، ناهيك عن قلة المهتمين، فضلا عمن يرشدنا إلى أن الموضوع يقتضي أن يطرق من جوانب مختلفة لا تتسع لها هذه الفرصة ربما.

      وتبقى غايتنا من هذا الموضوع الوصول إلى إثبات حقيقة فطرية التدين وأصالتها في الإنسان، وهي حقيقة سوف يتم بحث تعلقها بالإنسان  انطلاقا من خطة بحث منهجية قسمنا الاشتغال من خلالها إلى فصول ومباحث تسهيلا للقراءة والمتابعة. فمرحبا بكم من خلال هذا الفرش التمهيدي إلى حلقات ماتعة في موضوع مميز وهو نشأة الدين بين الفلسفة والقرآن.

فما هو الدين كما أجمعت عليه أمهات الكتب في حقل اللغة العربية، وما دلالاته في اللغة والاستعمال الشائع ؟

تصدير لابد منه:

ما من شك في أن الدلالة اللغوية تساهم بشكل كبير في التقعيد لمفهوم أو مصطلح معين، لكن الأمر يبدو صعبا بدرجة ما إذا تعلق الامر بمفهوم أو مصطلح متنازع في شأنه تماما كما هو الامر بالنسبة لكلمة “الدين“.

 فـــــــ” الدين ” ونشأته أمر مختلف فيه، لارتباط الانسان بتاريخ يجره وراءه وعواطف جياشة قل ما تخلص منها بسهولة.

إذ لاشك أن للعوامل التاريخية والبيئات الاجتماعية، إسهاما كبيرا في تحديد مفهوم هذا اللفظ؛ فالدين الذي عرفه الإنسان البدائي ومارسه، ليس هو الدين الذي يعتنقه الإنسان في العصر الحالي، بل إن فهمه  ليس واحدا – حتى في حقبة زمنية واحدة – وهذا ما يجعل من العسير جدا، تحديد مفهوم ” الدين ” تحديدا جامعا مانعا، وافيا كافيا.

      ولأن الدين مفهوم زئبقي من حيث دراسته وبحثه، رأينا أنه من المنطق، الرجوع إلى الأصل الإشتقاقي لهذه اللفظة، كما تناولها علماء اللغة، لعلنا نعثر من خلالهم على قواسم مشتركة بين جميع (الأديانreligions) مهما كانت طبيعتها، وبعدها ننتقل إلى الدلالة الاصطلاحية، لنحدد مختلف الدلالات التي يأخذها “الدين”، باختلاف البيئات والمرجعيات والعقول.

الدين في البعد اللغوي :

      جاء في معجم ” مقاييس اللغة ” لأبي الحسين أحمد بن فارس، أن الدال، والياء، والنون، أصل واحد، إليه ترجع  فروع الباب  كلها، وهو جنس من الانقياد والذل (…) فالدين بمعنى الطاعة، يقال : “دان له ” إذا أصحب، وانقاد وطاع، وقوم دين، أي : مطيعون منقادون ؛ ومثال ذلك قول الشاعر : *وكان الناس إلا نحن دينا*.

      وسميت المدينة كذلك، لأن طاعة ذوي الأمر تقام فيها2. وقد يرد “الدين” بمعنى الجزاء، في مثل قوله تعالى : ( ملك يوم الدين )3، أو بمعنى الحساب في قوله تعالى : (ذلك الدين القيم )4 ، أي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي (…) وقد دنته ودنت له : أطعته. قال عمرو بن كلثوم :

      وأياما لنا غُرًّا كراما     عصينا المَلِكَ فيها إن نَدِينا

      ويطلق “الدين” كذلك، ويراد به العادة والشأن، كقول العرب : ” مازال ذلك ديني وديدني” أي : عادتي، ودينَ : عود، وقيل : لا فعل له. والجمع أديان. والدين : الذل والإستعباد، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت”5. وفي التنزيل العزيز : {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} 6قال قتادة :في قضاء الملك. ودان الرجل : إذا عز(…) ودان : إذا عصى(..) ودان : إذا أصابه الدين، وهو داء (…) ودينت الرجل : حملته على ما يكره. ودينته : إذا وكلته إلى دينه، والدين : الحال (…) وهو قول الأعرابي7 والدِّينَةُ : الدَّين والدِّين، يقال : “رأى فلان بفلان دينة”، أي : رأى به سبب الموت8.

الدين من حيث تعدد معناه مفهوم زئبقي:

      نخلص مما سبق، إلى أن “الدين” كلمة تتردد بين ثلاثة معان متقاربة، أو بالأحرى، بين ثلاثة أفعال متناوبة، وبيان ذلك أن “الدين” قد يؤخذ من فعل متعد بنفسه، “دانه” “يدينه”، فيحمل معنى الملك والحكم والسياسة، كما في قول سبحانه {ملك يوم الدين}9. والديانة : الحكم القاضي. أو من فعل متعد باللام “دان له”، فيحمل معنى الطاعة، والخضوع، والعبادة والورع. وقد يؤخذ من فعل متعد بالباء “دان به” أي بالشيء؛ فيكون معناه : المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء نظريا أو عمليا.

      ولا يخفى ما بين هذه الاستعمالات الثلاثة، من تجانس وتقارب، إذ معنى الأول، لزوم الانقياد، والثاني التزام الانقياد، وأما الثالث فهو المبدأ الذي يلزم الانقياد له. ومن ثم فمادة “دين” تدور في جملتها حول معنى اللزوم والانقياد.

      ويبقى الاختلاف في معنى اللفظ ظاهريا، لا جوهريا، في الصيغة لا في المقصد. غير هذه المعاني الاشتقاقية، لا تكشف عن جذور المعنى الحقيقي للكلمة، لأنه ليس كل انقياد وخضوع دينا10.

      فـ “الدين” إذن، مصطلح يصعب تحديد مفهومه، تحديدا دقيقا كما بينا آنفا، سيما إذا حصرنا أنفسنا في حدود الدلالة اللغوية. فهل يستمر هذا التنوع في المعنى من حيث الاصطلاح أم أن (المفهوم) حسم أمره وحصل التوافق عليه رسما ومعنى ؟   

   بقلمي،

الهوامش:

  1. الإخلاص 1-2. ↩︎
  2. مقاييس اللغة، ابن فارس، ج 2، ص 319. ↩︎
  3. الفاتحة 4. ↩︎
  4. التوبة 36. ↩︎
  5. مختار الأحاديث النبوية والحكم المحمدية، احمد الهاشمي، ص 109، الحديث رقم 35 ، رواه الترميذي. ↩︎
  6. يوسف 76. ↩︎
  7. لسان العرب، ابن منظور، ج 17، ص 27، ص 28 .  ↩︎
  8. المعجم الوسيط، ج 1، ص 330 . ↩︎
  9. الفاتحة 4. ↩︎
  10. الدين، عبد الله دراز، ص ص 30 – 33 ↩︎

اترك تعليقاً