التعامل مع كتاب الله سبحانه، ينبغي أن تكون له فلسفة خاصة، تنبع من الوعي بالانسان، فكثير من المسلمين لا ينظرون أبعد من أنفهم في قضايا عدة، وهذه واحدة منها للأسف.
توطئة:
إن الورقة التي نتقدم بها اليوم إلى عموم المسلمين، إنما هي دعوة لمراجعة التدين عموما، وكيفية التعامل مع القرآن الكريم بوجه خاص، أملا في ترشيد المسيرة، وانضباط الاخلاص للصواب. ونرجو أن يفهم روح ما نقصد في إطار عاقبته المتوقعة استقبالا، بعيدا عن سوء الفهم وإغلاق العقول والمدارك.
الإنسان والقرآن: في منهج الإحياء وفقه التقديس.
قد يحملنا هم بعث القرآن من جديد، وإنهاء حالة الفصام والهجر بأنواعه، إلى ارتكاب أخطاء ” صامتة ” تقتل الفكر والمجتمع في هدوء تام، وتسيء إلى الوحي من وجه أو من آخر. تلك قضية القرآن مع تباين منهج إحيائه في مجتمع المسلمين، خاصة في شهر رمضان [الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان]1
فمن الطبيعي، والرغبة تحذو كثيرا من المسلمين، إلى خدمة القرآن الكريم والإحسان إليه بمنطق الاعتراف بالجميل، أن تجد المسلمين من فرط حبهم لكنز السماء، يقعون فيما هو عندنا ” خطأ صامت ” قاتل، كان وعينا به منذ زمن بعيد، وقد حدثنا به بعض الاصدقاء طلبة وأساتذة، منهم من أبدى تحفظا خوف الفتنة وهم قلة، والبعض الآخر استحسن الفكرة استحسانا، وهم كثير. فما هي الفكرة الموسومة بالخطإ الصامت إذن؟
إن المشكلة عندنا في التعاطي مع القرآن الكريم ـ في شهر الغفران ـ تكمن في سكوت أكثر المسلمين ـ في حدود ما نعلم على الاقل ـ عن المسابقات الاقصائية في سور وآي الكتاب المنزل، وكأنما الامر مسلمة عقدية، و”جبرية جديدة” لا مجال فيها لتداول الكلام.
هل من الضروري أن نتعلم قواعد التجويد؟
صحيح أن تجويد القرآن الكريم وتحسين الصوت به، وردت أحاديث وآثار في شأنه. لكن فائدة وجب التنبيه عليها، وهي أن الانسان نفس وصورة، ما يعني أن التعامل مع كتاب الله سبحانه ينبغي أن تكون له فلسفة خاصة، تنبع من الوعي بالانسان من حيث ما يخالجه، وما يعتوره من فساد أو اعتدال بحسب ما يحيط به من أقدار وأغيار. ألست ترى أن التباري في تجويد القرآن، قد يجعل المتباري متمرددا بين قصد الحظ وقصد التعبد [وخلق الانسان ضعيفا]2 ، فإن غالب ” قصد الحظ ” “قصد التعبد” طلب الانسان غرض نفسه وحظوظها على حساب الاخرين ممن معه، إذ التأهل أوالفوز، إنما هو غرض دنيوي، يكون مصحوبا بشهرة ورغبة في إقناع لجنة التحكيم والمشاهدين بحسن الأداء أكثر من نزوع صاحبه إلى الإسراء بالنفس في الارض تأملا وتفكرا، والعروج بالروح والوجدان إلى السماء، قال بعض أهل العلم والفضل في معرض حديثهم عن الآية السابقة بإن النفس في حقيقتها ضعيفة لا تقوى إلا على ما يشاكلها ويناسبها. والله سبحانه وتعالى بسرائر العباد أعلم.
فهل إعداد الانسان عدته لأجل “امتحان القرآن”، فيه إخلاص لوجه الله سبحانه؟ أم أن عينه حديد إلى امتحان الدنيا ؟. خاصة، وأن بعض الجهات تتعمد الدعاية، لأجل المشاركة بإعلان الجوائز التي تنتظر المشاركين المحظوظين، وكأننا في ” مزاد علني ” نتقدم لنشتري بما سنقدمه من أداء [وخشوع] مطلبا دنيويا مفسدا لقصد التعبد والسير في طريق الله .
تجويد القرآن تحت مسمى الإقصائيات:
إن الانسان المسلم حيث يقصد إلى إعلان “مباراة إقصائية“، يهان بها أكثر من يشارك احتفالية القرآن، وإحيائه في نفوس الناس ولو ببعض سورة، ويدفع ثلة قليلة جدا من بين مجموع المشاركين إلى الفرح بـ:”حظ النفس” وتحقق غرضها. أقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه سلوك لم يستوعب مآلات الأفعال ونتيجتها المتوقعة استقبالا. خاصة إذا أسندت الأمور إلى من طبع على قلبه فغيب جانب الوجدان، وتعامل مع المتباري عند إعلان نتيجة المسابقة كما لو يختار بين قرص مدمج وآخر. متناسيا طبيعة الانسان عموما والبراعم خصوصا. ومن الشواهد على هذا الذي نقوله في هذه الفقرة تحديدا أننا تلقينا دعوة لحضور احتفالية تنافسية إقصائية في شان الكتاب المنزل فاستجبنا. لكن الصبيحة عرفت حدثا خاطئا، وهو أن المكلف بإعلان النتائج ــ بعد المداولة ــ اختار أن يضع جدولا بأسماء المشاركين، أثبت معدل المشاركة وأعلن أمام الملآ في شأن براعم يحذوهم أمل الفوز[ المرتبة الاولى لصفوان ، والثانية لسعدان ، والثالثة لنبهان ، والرابعة لغفلان ، والخامسة لفلان ، والسادسة لعلان، والسابعة لخذلان والمرتبة الاخيرة لمهان ] ألا ما أقبح العمل ياسيد جهلان.
لسنا من الأبواق التي تروم إسكات صوت القرآن معاذ الله سبحانه، لكن إن كان لابد من المسابقة بمنطق الاقصائيات ففي حفظ الكتاب المنزل بالقصد الجوهري لا في تجويده إلا على سبيل التبع ، فإذا اتخذ الحفظ التجويد خليلا، فمرحبا بإقصاء من لم يحفظ فليس يسوى إنسان كله طاقه مضاء من الداخل والخارج [ سيماهم في وجوههم ]3. مع إنسان بعضه مضاء وبعضه ليلة كحلاء.
ومن قلة البصر والبصيرة تكليف الانسان مالا يطاق، بقياس صوت إلى صوت فإنما الاصوات نعم الله كتنوع الفاكهة في الارض. ومهما برع الانسان في قواعد التجويد تبقى عذوبة الصوت ملكة يهبها الرحمن من يشاء من عباده فرفقا بالنفس فإنها من جنس القوارير.
إن الورقة التي نتقدم بها اليوم إلى عموم المسلمين إنما هي دعوة لمراجعة التدين عموما وكيفية التعامل مع القرآن الكريم بوجه خاص أملا في ترشيد المسيرة وانضباط الاخلاص للصواب. ونرجو أن يفهم روح ما نقصد في إطار عاقبته المتوقعة استقبالا بعيدا عن سوء الفهم وإغلاق العقول والمدارك.
دفعا لشبهة أو تهمة:
فلسنا نجادل في أن علم التجويد مطلب جليل وقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم مجودا من جبريل عليه السلام، ولذلك وجدنا علماء الأمة من السلف والخلف يولون اهتماما لهذا العلم لشرفه ومكانته، لكننا ننبه على ما يمكن أن يلحق أفعال المكلفين من فساد و إفساد، عفوا أو قصدا.
إن شريعة الإسلام الغراء لما ميزت بين ما هو مقصود على سبيل الأصالة وما هو على سبيل التبع، تكون قد وضعت بذلك قاعدة ينبغي أن ينطلق منها كل مسلم في إطار تعامله معها حتى لا تختل المعادلة. فإذا حدث وقدم ما ينجر تبعا على المطلوب الجوهري كان ذلك أدعى لطرح سؤال المراجعة .
هذا وقد تبلورت فكرة هذا الموضوع، لما لوحظ تكرار إجراء مسابقة تجويد القرآن الكريم بنفس رتابة ” جهلان” وفي غفلة عما هو سوء صنيع بالنظر إلى عاقبته المنتظرة، ذلك أن شرط قبول العمل في شريعة الاسلام أن يكون خالصا صوابا؛ إذ لا يكفي حسن النية وإخلاص القصد لله رب العالمين، لتقول فتفعل في الدين وتنظم فتعمل، بل لابد من الانتباه إلى صواب العمل وعدم معارضته لروح الشريعة الإسلامية ومقصودها الأعظم.
وقبل أن تغادرنا أيها القاريء الكريم، نحمل إلى علمك نكتة ــ بالمعنى العلمي ــ وهي أن السيد الفريد رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، كان ديدنه التنبيه إلى أن “المبالغة في التعقيدات يؤدي إلى ضياع التكليفات”، في إشارة منه إلى ضرورة الرفق بالمكلف في التعبد. ذلك أن بعض الناس قد تحملهم غيرتهم على الدين والحرص على تعظيم أوامره إلى مجاوزة الحد في الحرص على بعض الامور فيشددون على الناس حيث يطلب التيسير والرفق والنية أبلغ من العمل. ومثاله عندنا:
- حمل الناس على قراءة القرآن بأداء القراء المتمرسين.
- قمع أصوات عشقت كلام ربها، فقرأته ببراءة الاطفال.
- مبالغة بعض الناس في تحسين الصوت بالقرآن إلى حد أخرجوه بقصد التعظيم إلى لون من ألوان الغناء والطرب، وهو أمر خطر، وخطورته في اعتقاد الصواب وحمل الناس على التأسي به.
فرسول الرحمة صلى الله عليه وسلم وإن أمر بتحسين الصوت بالقرآن وتحبيره للناس كما في قصته مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، إلا أنه لم يقصد إحلال الاهتمام بالتغني محل الحرص على المعاني الرسالية التي في آي القرآن، وقد وقفنا من خلال تجربة متواضعة، عند إشكال ذهاب الرغبة في تحسين الصوت بصاحبه إلى تغييب عقله عن الاغتراف من مورد الماء، وتلك المعاني الرسالية التي في آي الكتاب المنزل إلى الناس كافة، بشيرا ونذيرا.
ومن المستملحات النادرة جدا، أن أحد المتفيقهين قال في حضرة الناس، لشخص يجاهد نفسه في حفظ الكتاب رغم أنه لا يملك أن يقرأه مجودا مرتلا كما شأن المتمرسين:
- ما هي الرواية التي قرأت بها يا سيد فلان؟
- فأجابه وقد عرف أن رسالته إليه، ليتك لم تقرأ !!!!
- الرواية التي أقرأ بها هي رواية “وحش…”. والجواب يا سادة يختزل امتعاض القاريء من المتفيقه وتذمره من فضيحة في معطف نصيحة.
إن الصوت الحسن مطلب شرعي، والنفس تطرب لسماع القرآن يتلى بأداء ندي يصل القلوب، لكن الذي ننبه عليه أيها الفضلاء مجاوزة حد الاعتدال إلى تكليف النفس ما لا تطيقه من الالوان والالحان. وهذا خطأ لا يقل رتبة عن الأول.
إن المسلمين يا سادة ـ ولسنا نبالغ ـ متحمسون للفقه الحركي الميكانيكي الذي يسير بالدين في واقع الناس، لكنهم، ليسوا يستحضرون حتى، الفقه المقاصدي الذي يجعل المسلم ينظر أبعد من أنفه فيرى نتائج الافعال المتوقعة فيقدم أو يحجم.
تنبيه :
التعامل مع كتاب الله سبحانه، ينبغي أن تكون له فلسفة خاصة، تنبع من الوعي بالانسان، من حيث ما يخالجه، وما يعتوره من فساد أو اعتدال بحسب ما يحيط به من أقدار وأغيار، تأمل تجد أن كثيرا من المسلمين لا ينظرون أبعد من أنفهم في قضايا كثيرة وهذه واحدة منها للأسف.
لكم منا أطيب تحية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته