علم الاجتماع الديني: بين الإسلام والفلسفة.

فالدين إذن حق “والديانة” أسطورة أو من جنسها. الديانة : “نتاج مخيلة إنسان ما قبل المنطق.وعليه يمكن القول برفض هذا الاستعمال ” الأديان ” وإحلال “الشرائع” محلها.

علم الاجتماع الديني: بين الإسلام والفلسفة.

يقوم التصور الاسلامي على أن الإسلام، رسالة السماء إلى الإنسان إنه الدين La religion الذي أراده الله تعالى للناس طوعا وكرها وليس من الأديان الوضعية التي يمكن أن تصنعتها البشرية من منطلق الهوى وطلب الحظوظ. الاسلام من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الذي يرضاه الله للناس، ويرضاه من الناس، ولا يرضى لهم دينا غيره1. فهو دين الله في كل العصور، ولكل الدهور والأزمان، أنزله الله واضحا بحيث لا اختلاف فيه، إلا بسبب البغي والكفر، ومن يكفر به فقد ظلم نفسه يقول الشاعر :

لاتظلمن إذا ما كنت مقتدرا          فالظلم ترجع عقباه إلى الندم.      

الدين أم الملة والنحلة:

وقبل أن نتناول بالبحث أهم النظريات الفلسفية Philosophical theories حول نشأة الدين، نرى أنه من المفيد أن نبدأ من حيث نتفق، ونعلن ابتداء، انتماءانا ووجودنا بين عوالم شتى ؛ فنحن أمة لها عقيدة وشريعة وأخلاق، وتلكم بنية المنظومة الإسلامية التي تغاير غيرها من المنظومات، وتتميز بخاصية فريدة من نوعها؛ وهي تعلقها بالصفة الربانية، أو مايسمى بربانية  المصدر. فالإسلام دين، ولكنه ليس كأي دين، أو كأي ديانة لأن استعمالنا لكلمة   “الدين” تجاوز منا وتعسف في الاستعمال حتى صار من حقنا، فأصبح كما يقول المثل  السائر : (خطأ شائع خير من من صواب مهجور). والحق كل الحق أن الدين واحد وهو الإسلام، منذ  بعثة أول  نبي كما سيأتي في مقال لاحق، وماعداه  لا يعد منه ( أي لايعتبر دينا )، بل حري بنا  تمييزا له، أن نسميه” ديانة ” أو نحلة، كما ذهب إلى ذلك بعض علماء الأمة، من أن النحلة تطلق  ويراد بها :” ما يدين به الإنسان، وكان من صنعه2. “

  ومدلول الكلمة يشير إلى الكذب والإنتحال. وقد أخطأ كل من أسقطوا تعريفهم للنحلة ( الملة ) على الإسلام، إذ النحلة : ” مجموعة من العقائد والعبادات والشعائر التي تخص شخصا  بعينه “. وهو تعريف  يحمل في طياته قصورا ؛ لأن النحلة من مواصفاتها الجماعة الواحدة، وأما الإسلام، فدين الله للناس كافة.

      وبهذا نكون قد وقفنا على الفرق، بين مدلول المصطلحات الثلاثة (الدين والملة والنحلة). والدين الذي  نقصده في علاقته بهذين المفهومين، هو  الدين الحق. قال تعالى : {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}3. وقال أيضا : {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين}4.      

الدين أن الديانة:

فالدين إذن حق، “والديانة” أسطورة أو من جنسها. الديانة : “نتاج مخيلة إنسان ما قبل المنطق5. وعليه يمكن القول برفض هذا الاستعمال ” الأديان ” ونضع محلها كلمـة “الشرائع”، أو “الملل”، وعلة ذلك أن الأديان، جمع سيق من مفرد لاجمع له إلا ظاهرا أو تطاولا ؛ فالكلمات متى كانت خاصة وأريد بها معنى معينا، لزم إبقاؤها على أصلها، لاحملها على معنى عام هي ليست منه في شيء.

      وقد يظهر بعض التناقض فيما ذكر، خاصة لما قلنا بأن الدين خاص، في هذا الخصوص معنى الإبانة، فإذا بنا نؤكد منذ أول سطر في هذا الفصل ككل، عن غموض وصعوبة فهم الدين مصطلحا، وتصويب هذا أن الدين لما ننظر إليه بمنظار عام، ونغيب كونه خاصا، يستعصي على الأفهام، إدراك بعده ومعانيه. أما لو نظرنا إليه بمنظار خاص، فلن تتعتم صورته أمامنا.

      ولعله من نافلة القول أن نؤكد أن الدين واحد وهو الإسلام، وهو حقيقة يجب أن تكون معلومة بالضرورة. ومن ثم فالدين إلهي في المنطلق، بشري في الإمتداد، وتلك خاصية الشرائع السماوية Heavenly religions. وهو أمر يريحنا ويريح كل ذي عقل سليم. غير أن ما يحير، هو طبيعة الدين الذي يتم الحديث عنه في دائرة المعارف الغربية ؟

نشأة الدين بين الفلسفة الانسانية والتصور القرآني:

آراء في الدين: أمثلة ونماذج:

      إذا حاولنا أن نستعرض بعض التعاريف التي قدمها علماء الغرب في شأن مصطلح “الدين la religion“، نجد أن الذي يميزها طابع التباين في تناول الموضوع كل من زاوية قناعاته إلا أن نفحة الاعتراف بوجود دين سماوي له طابع السمو، هو المشترك الذي جمع تفرق العبارة عند هؤلاء ضدا على الفكر السائد الذي يذهب الى أن الفلاسفة في مجتمعات المعرفة يرفضون أصالة الفكر الديني في مجتمع الناس منذ الأزل. يؤطر هذا المعنى ما ذهب اليه “ول ديورانت Will Durant ” حين قوله ” قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون ولا قلاع ولا مدارس ولكن لم توجد أمة بلا معابد” وإليكم بعض النماذج والأمثلة:   

    فالدين عند ” كانط ” مثلا هو : ” الشعور بواجبتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية. أما عند الأب شاتل  ABBE  CHATEL  فهو “مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق، واجبات الإنسان نحو الله وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه.”6

في حين نجد الدين عند “ميشيل مابير” دالا على “جملة العقائد والوصايا التي يجب أن توجهنا في سلوكنا مع الله، ومع الناس، وفي حق انفسنا7.

توضيح وبيان:

      والواضح من خلال هذه المفاهيم أنها قد حصرت الدين في بعده الإلهي السماوي، والمعنى أن مصدر الدين عند هؤلاء، هو تلك القوة العلوية الخفية التي عبروا عنها باسم “الإله” أو “الله”. وهذا ينطبق مع خصوصيات الدين الإسلامي، باعتباره  دينا ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه وبغيره.

      غير أن هناك من ربط مفهوم الدين بالجانب المثالي الميتافيزيقي أمثال ” سيلفان بيريسييه Sylvain Perisset“، الذي ذهب إلى أن الدين هو الجانب المثالي في الحياة الإنسانية، وهو مفهوم لاينطبق على السماوي – أي الدين الإلهي الذي جاء في حقيقة وصفه أنه من عند الله تعالى، وإن ناله تحريف أو تغيير بعد ذلك8(9)- لأن  المثالية غير الواقعية، والدين الإلهي يجمع بينهما؛  فهو مثالي من حيث نسبته إلى الله الذي لاتدركه الأبصار، وواقعي من حيث ارتباطه بالإنسان، وقابليته للأخذ والفهم والتطبيق.

عندما تغيب الموضوعية:

وهناك من الفلاسفة، من اتجه اتجاها حيويا ( روحيا ) في تفسيره للدين، أمثال ” ريفيل Jean-François Revel ” و” تايلور  Taylor” اللذين ذهبا إلى أن الدين  عبارة عن الإيمان  بكائنات روحية، يعترف لها الإنسان بالسلطان عليه وعلى سائر الموجودات.

      أما ” دور كهايم Durkheim“فقد اعتبر الدين” مجموعة متسانجة من الإعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة، أي المعزولة المحرمة ؛ اعتقادات وأعمال تضم أتباعها في وحدة معنوية تسمى الملة “. وعليه، فالدين عند دوركهايم عبارة عن مؤسسة اجتماعية تفرق بين المحرم وغيره داخل منظومة واحدة . أما قوله ” في وحدة معنوية تسمى الملة ” فيحمل معنى ضمنيا، وهو أن هذه المؤسسة تضمن للجماعة البشرية قانونا رائعا، يسري في جنباته. وهو وحدة العمل الذي تصنعه العبادة، ووحدة الضمير الذي تصنعه وحدة العقيدة10 .

      هذا بينما يرى آخرون في الدين القوة القابعة القامعة المانعة، لحريات الأشخاص وتصرفاتهم، وهؤلاء أمثال “سالومون Salomon” و”فرويد Sigmund Freud“،  الذي فسر  فكرة الدين تفسيرا جنسيا محضا، انطلاقا مما أسماه “بعقدة أديب Oedipus complex“.

      وإذا وجدنا من يقول بأن الدين هو الإيمان بكائنات روحية، ومن يقول إنه يتجسد في بعد سماوي خلاف من يقول عبارة إنه مؤسسة اجتماعية، فهناك من ينظر إليه على أنه فوق العقول البشرية، وبالتالي لا يمكن إدراكه ولا الإحاطة به إحاطة تامة ( أي أنه غيب بالمعنى الشرعي في الإسلام) وهؤلاء أمثال “سبنسر Herbert Spencer ” و”ماكس موللر Friedrich Max Müller ” الذي يقول  بأن الدين هو محاولة تصور  ما لايمكن تصوره، والتعبير عما لايمكن التعبير عنه، وهو التطلع إلى اللانهائي، [ إنه ] حب الله11.

      ويتضح من هذا المفهوم أن ” موليير ” يقصد بالدين : الله، ولهذا قال ” هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره “، فالله في تصور موللر، قوة علوية، بعيدة عن أفهامنا من حيث التصور وهذا يبين أنه يفصل بين الحكمة والشريعة، بين العقل والعقيدة. وأما قوله ” محاولة التعبير عنه ” فهو مشترك لفظي يحتمل معنيين اثنيين: أحدهما التعبير الشفهي، والثاني التعبير الفعلي؛ فإن كان قصده الأول فالفهم سليم لا يختلف عما جاءت به الشرائع السماوية وذلك أن الله تعالى ليس كمثله شيء. وإن كان قصده الثاني، فهو غير سليم، لأن ترجمة فكرة الدين إلى عبادة تعبير عنه وممارسة له، وهو أمر وارد في جميع الشرائع السماوية.

      وإذا كنا لا نلمس من خيوط هذه المفاهيم، موقف أصحابها من الدين، فإن هناك من شن حربا شعواء عليه، وأبان عن سخطه تجاهه  كــ الفيلسوف “ماركس Karl Marx“، الذي يرى في الدين، ذلك الأفيون المخدر للشعب، أو مجموعة الأساطير  التي وضعها الإقطاعيون والرأسماليون. و” نتشه “، صاحب فكرة الخطيئة التي يسقطها الله على براءة الأرض12 .

على هامش الكلمة:

      وفي شكل خاتمة لهذه المقالة الفورية نقول: إن الجرد المتواضع لمختلف الآراء المؤسسة لمفهوم الدين عند العلماء المسلمين وعند فلاسفة الغرب – وكذا في المفهوم القرآني13،  يبين أن الدين مصطلح زئبقي في خاصيته إن صح التعبير. وهو ما يطرح صعوبة إيجاد إصطلاح واحد وموحد له. لكننا على سبيل البيان أكثر سنستمر في تناول الموضوع على مستوى النظريات الفلسفية التي اهتمت بنشأة الذين في مجتمع الناس على مر العصور؟

الهوامش:

  1. مقومات التصور الإسلامي، سيد قطب، ص 16. ↩︎
  2. بحوث في التقافة الإسلامية، جماعة من الأساتذة، ص 36، الملة و النحلة في اليهودية و المسيحية والإسلام، حمدي عبد العال، ص 9. ↩︎
  3. الصف 9 ↩︎
  4. آ ل عمران 85. ↩︎
  5. بحوث في الثقافة الإسلامية، جماعة من الأساتذة، ص 36. ↩︎
  6. الدين، عبد الله دراز، ص 36. ↩︎
  7. نفس المرجع. ↩︎
  8. يسألونك في الدين و الحياة، احمد الشرباصي، ج 6، ص 469. ↩︎
  9. لمقصود هنا إثبات أن اليهودية و المسيحية رغم ما لحقهما من تحريف، شرائع سماوية من عند الله تعالى باعتبار أصلهما ، أما الإسلام فلم يلحقه أي تحريف لأن الله تكفل بحفظ رسالته، قال  تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }. ↩︎
  10. جريدة المنار الإسلامية، ع 9، ذ : محمد رجاء حنفي عبد المتجلي، ص 33. ↩︎
  11. كلمة أضفتها ليستقيم المقروء. ↩︎
  12. الدين، عبد الله دراز، ص  ص 33 – 37. ↩︎
  13. راجع مقالاتنا السابقة في شأن في الموضوع نفسه. ↩︎

اترك تعليقاً